عرض المقال
وعاظ السلاطين (1)
2013-03-17 الأحد
«وعاظ السلاطين» واحد من أهم الكتب التى قامت بتشريح التاريخ الإسلامى على طاولة علم الاجتماع، كتبه عالم الاجتماع العراقى الشهير على الوردى الذى تعرض بسببه لهجوم شديد، نظراً لمنهجيته الصارمة ومحاولته الدائبة للحفر فى بئر التاريخ للوصول إلى صفاء الحقيقة بعيداً عن ركام السائد والمألوف والمشهور والمنتشر، وبرغم أنه قد كتب فى منتصف خمسينات القرن الماضى فإننا نحتاج قراءته مراراً وتكراراً، خاصة فى هذه الظروف الضبابية التى قفز فيها وعاظ السلاطين من مقاعد ومنصات الوعظ وتزييف الوعى إلى مقاعد وقصور الحكم أيضاً، فصار الواعظ حاكماً وصار الحاكم واعظاً، فاختلطت الأوراق وخدرت العقول وتاهت البلاد والعباد، ومنذ فجر التاريخ ومخ المواطن مستهدف من قِبل الكهنة والوعاظ، ومنذ بدء الخليقة والحاكم يستخدمهم لتحويل الشعب إلى قطيع والمواطنين إلى رعية سهلة القياد، تارة بإيهامهم بأنه خليفة الله فى الأرض ومبعوث العناية الإلهية وإذا خرجوا عليه أو اعترضوا على قراراته فهم يخرجون على الله ويكفرون بمن يتسربل بردائه، وتارة أخرى بحضهم على الخنوع والخضوع والتفكير فقط فى حياة الآخرة وترك هذا العرض الدنيوى الزائل والزهد فى نعيم الأرض الفانية فى الوقت الذى ينعم فيه هؤلاء الوعاظ بالمال والنساء والسلطة والمنح والعطايا والإقطاعيات، يتركون للغلابة السُّم وينعمون هم بالدسم!، كانت أسلحتهم فى الماضى مجرد كتب وخطب ومنابر، أما الآن فقد اشتد الخطر وعظم البلاء فقد صارت أسلحتهم فضائيات وإنترنتات وصالونات أرستقراطيين وأرستقراطيات ورحلات حج وعمرات، صناعة الواعظ الآن صناعة مضمونة الربح عظيمة التأثير تمنح صاحبها الهيبة والمكانة بمجرد افتتاح كشك لبيع بضاعة الكلام المخلوط ببهارات التخويف والتفزيع والترهيب لكى يصعد فضيلته على سلالم رعشتك وارتجافتك وانسحاقك، مجرد جلباب باكستانى أبيض وطرحة وهابية على طاقية صينية طالبانية مزركشة مع مخاصمة لماكينة الحلاقة وتدريب على شحن أقل ملكات العقل الإنسانى وهى ملكة الحفظ والترديد والتسميع والتلقين مع اغتيال ووأد وخنق وإجهاض ملكة العقل النقدى الإبداعى ومعها كل علامات الاستفهام وأدوات أعمال المنطق وإغلاق أى ثغرة فى باب الاجتهاد وبالطبع شطب لكل المجددين الدينيين على مر التاريخ الإسلامى حتى لا يتلوث المخ ويخرج عن قضبان الاتباع والعنعنة وأحادية الفكر المتطرف، بعدها تمنح درجة واعظ السلطان على الطريقة الوهابية الحديثة وتفتح لك الأبواب الموصدة وتصير نجماً فى مجرة محكوم عليها بالانفجار والخروج من دائرة الزمن والتاريخ والحياة إلى حيث الفناء لأنها لا تؤمن ببديهية أن التغير والتبدل والتطور هى سنة الحياة والثابت الوحيد فيها.
يبدأ الكتاب فى مقدمته بحقيقة صادمة للبعض وهى أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فواعظ السلطان، كما يقول «الوردى»، حين يقول لا تنظر إلى المرأة ربما أراد وقتها أن يقول «لا تنظر إلى جوارى غيرك»، وهو حين يقول «إياك والحسد» لعله يقصد «لا تحسد غيرك على امرأة اشتراها بحلال ماله»، والغريب أن نراهم يستنزلون غضب الله على الفقير الذى يغازل جارية بينما هم يباركون الغنى ويهنئونه على تلك الجوارى اللواتى اشتراهن من السوق وكأن الفرق بين الحلال والحرام فى نظر هؤلاء هو الفرق بين وجود المال وعدمه. «وغداً نستكمل قراءة هذا الكتاب المهم»